المرأة في فلسطين
الكاتب محمد أيوب
مرت المرأة الفلسطينية في ظروف غير عادية على مدى أكثر من نصف قرن ، فقد تمزق شمل العائلات الفلسطينية وتوزع أبناؤها وبناتها في بقاع الأرض المختلفة بعد الهجرة الكبرى في عام 1948م ، فقد عانت المرأة الأمرّين نتيجة لمأساة فلسطين ، عانت من الفقر والجوع والمرض ، ومع ذلك صمدت صمود الأبطال أمام الأعاصير التي حاولت أن توهن من عزيمتها ، فناضلت من أجل تربية الأولاد ومن أجل كسب لقمة العيش جنباً إلى جنب مع الرجل ، فقد شكلت المرأة سنداً حقيقيا للرجل بعد النكبة وكانت بمثابة العمود الفقري للأسرة ، يخرج الرجل سعيا وراء العمل وكسب لقمة العيش ، بينما تتابع المرأة شئون الأطفال في المدارس أو في العيادات النادرة التي أوجدتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في مناطق اللجوء التي أشرفت عليها وقتها ، وقد افتتحت وكالة الغوث مدارس عديدة لتعليم أطفال اللاجئين في الخيام بداية قبل أن تقوم الوكالة ببناء المدارس من الحجر والقرميد في منتصف عقد الخمسينيات ، وقد عمل في هذه المدارس معلمون من الجنسين ممن يحملون شهادات المترك وما قبل المترك ” الثانوية العامة والصف الثاني الثانوي ” ، ونظرا لقلة عدد المتعلمات من الإناث اللاتي كن من بنات المدن مثل يافا وحيفا وغيرها ، بدأت الوكالة في استيعاب معلمات من حملة الشهادة الإعدادية .
لقد تركز اهتمام اللاجئين على التعليم بعد أن خسروا الوطن ، وبعد أن أدركوا بفطرتهم أن الجهل كان عاملا أساسيا من عوامل ضياع فلسطين ، ولم تتورع الأسر القروية من إرسال بناتها إلى المدارس لتلقي العلم ، لكن المجتمع لم يستوعب مدى أهمية تعليم المرأة، فقد عزف الشباب عن الزواج من الإناث المتعلمات والموظفات ، كما برزت مشكلة قطع مخصصات التموين عن أسرة الفتاة العاملة مما أجبر أسراً كثيرة على إجراء عقود زواج صورية على بناتهن الموظفات مقابل مبلغ من المال يتم دفعه للرجل العاطل عن العمل في مقابل توقيعه على عقد الزواج شريطة أن يقوم بتطليق الفتاة بعد نسخها من بطاقة تموين الأسرة ، وقد امتهن بعض الرجال هذا العمل في مقابل ما يحصل عليه من دخل ، يتزوج هذه زواجا صوريا ليطلقها ويتزوج من أخرى ، وقد يجمع بين أربع نساء في وقت واحد ، وهكذا، وربما يرفض الرجل الطلاق ليبتز أسرة الفتاة إذا جاءها خاطب يطلب يدها ، لقد وقعت المرأة ضحية الظروف الصعبة والفقر المدقع الذي عانت منه أسر كثيرة في فلسطين وخصوصا في قطاع غزة الذي هو بمثابة مستودع الفقر في العالم العربي والإسلامي.
وبعد العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة أصيبت المرأة في القطاع إما بفقد زوجها أو أحد أبنائها ، فقد قتل الجنود الإسرائيليون في خان يونس حوالي ثمانمائة رجل في يوم واحد ، وقد شاهدت بعضهم وهم يتساقطون جراء إطلاق النار عليهم ، حتى أنهم قتلوا أطفالا في مثل عمري في ذلك الحين ، فقد فقدت عددا من أصدقائي الحميمين ، شعرت بالفقد والحزن عندما علمت أن زوج العروس حياة أبو النيل التي كنت أحبها وكانت تحبني دون أن أكون قد عرفت معنى الزواج ، كانت المرأة في نظري رمزا مقدسا للعطاء وما زالت كذلك ، فهي نبع الحياة الذي لا ينضب ، الأم التي تصنع الرجال ، ومع ذلك فقد تعرضت المرأة لظلم فادح ، فقد عانت المرأة من اضطرارها للسفر إلى الخارج بحثا عن عمل يساعدها على كسب لقمة العيش لأسرتها ولأبويها ، وقد اضطرت أن تسافر مع أحد المحارم إلى السعودية كما استناداً الشريعة الإسلامية ، وقد كان هذا المرافق ممنوعا من العمل هناك ، مما وضع هؤلاء المرافقين في وضع أشبه بوضع المرأة العربية عموما والتي كان البيت مكانها الطبيعي وقتها.
عانت المرأة بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع عام 1967م من اضطهاد متعدد الأبعاد ، فقد عانت مجددا من فقدان الزوج والولد ، كما عانت من اعتقال زوجها أو أحد أبائها بعد اندلاع المقاومة ضد الاحتلال في أواخر عام 1967م حيث نفذت الجبهة الشعبية أولى عملياتها في جنوب قطاع غزة ، وبتصاعد وتيرة المقاومة تصاعدت حملات الاعتقال حتى طالت المرأة الفلسطينية ، وقد شاركت النساء الفلسطينيات في المقاومة جنبا إلى جنب مع الرجل ، بل إن بعضهن تفوقن على الرجل في مجال الكفاح المسلح ؛ فبرزت مناضلات عديدات أمثال ليلى خالد وعايدة سعد وفاطمة برناوي وغيرهن مما لا يتسع المجاال لحصرهن دون إنقاص من حقهن وسبقهن في حلبة النضال الوطني .
وقد تزايدت معاناة المرأة بعد اشتراكها الفعلي في النضال واندماجها بفاعلية في حركة التحرر الوطني مما زاد من معاناتها ، أصبحت المرأة تعاني أكثر من الرجل ، تعاني من الاضطهاد القومي كالرجل ، كما تعاني من الاضطهاد الطبقي مثلها في ذلك مثل الرجل ، وعانت من اضطهاد الرجل لها ، فقد عانت المرأة المناضلة من النظرة الفوقية للرجل ومن عزوف المناضلين عن الزواج من مناضلات ، فقد كنت مرة في زيارة لأقاربي في مدينة طولكرم ، وهناك قابلت مناضلة خرجت من السجن قبل فترة ، وقد شكت لي شكوى مرة من تنكر المناضلين للنساء اللاتي تعرضن للسجن والتعذيب ونظروا لهن نظرة دونية وقتها ، مما جعل البعض منهن يشعرن بالمرارة لأنهن شاركن في النضال الوطني ، كما تعرضت المرأة للمماطلة عند مطالبتها بمستحقات زوجها الأسير .
كما شكلت الثقافة الشعبية عاملا أساسيا ساهم في التقليل من شأن المرأة ، فقد نظرت هذه الثقافة للمرأة كما تنظر لأية قطعة أثاث في البيت ، يمكن استبدالها أو الاستعاضة عنها في أي وقت ، هناك مثل كان البعض يستخدمونه عند تعزية من تموت زوجته ، يقول المثل: ” المرأة من المال والمال معوض ” وهناك أمثلة كثيرة تقلل من شأن المرأة وقيمتها في المجتمع ، وهذا في حد ذاته أمر مخجل حقا ، لأن المرأة تشكل نصف المجتمع الفلسطيني ، بل أكثر من النصف ، ماذا نتوقع من مجتمع يهمل نصفه الآخر ، يرى البعض أن المرأة مفشة الرجل ، أي أن الرجل عندما يعود من الخارج غاضبا فإنه يصب غضبه على زوجته ، ويكرسون هذا التوجه بالمثل القائل : ” الناس تضربني وأن أضرب مرتي ، وأنا بعون الله عليها قادر ” ، هكذا وبكل بساطة ينظر البعض للمرأة ؛ فهل حاولت المرأة أن تدافع عن كرامتها وأن تناضل من أجل نيل حقوقها في المجتمع ، ولا أقصد بذلك أن تحدث عملية استقطاب بين المرأة والرجل في المجتمع فهما فريقان متكاملان لا أساس للصراع بينهما .
لقد تغاضت معظم التنظيمات الفلسطينية عن إعطاء دور بارز للمرأة في المجتمع وخصوصا في المواقع الحزبية المتقدمة ، وإن حدثت استثناءات فإنها لا تحدث إلا بعد أن تتم عملية تدجين واحتواء للمرأة التي ستحتل موقعاً متقدما ، ولا نكاد نرى وجوداً للمرأة خارج إطار المؤسسات النسوية لأن كثيرين منا ما زالوا ينظرون للمرأة على أنها عورة وأنها أعجز من أن تؤدي أدوارا توكل للرجال ، وحتى الآن نسمع في بعض الإذاعات المحلية خلال حوارات تبث على الهواء مباشرة يرفض خلالها المتحدثون عمل المرأة ويؤكدون أن مكان المرأة الطبيعي هو المنزل متناسين أن النبي عليه السلام اشتغل في التجارة عند خديجة قبل أن يتزوجها ، وأنه قال مخاطبا المسلمين : ” خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء ” ” يقصد عائشة زوج الرسول عليه السلام ، وأن النساء كن يخرجن وراء جيوش المسلمين مشجعات وأنهن كن ينشدن للمقاتلين : إن تقبلوا نعانق ، وإن تدبروا نفارق ” وقد وصل الأمر بالنسوة إلى حد اعتراض من يهرب من الرجال من المعركة وإعادته إلى القتال ، وقد يرى بعض المعتدلين أن تعمل المرأة في مجالات محددة لا تتعداها إلى غيرها مثل مجال التعليم ، أما أن تعمل المرأة في كل المجالات فما زال ذلك مرفوضا من الكثيرين الذين يقعون في تناقض واضح يبرز عندما يرغب هؤلاء في تزويج أبنائهم ، حيث يكون أول ما يسألون عنه هو ما إذا كانت التي يريدون خطبتها موظفة أم لا ؟ أي تناقض غريب ، نرفض عمل المرأة ، وعندما نريد الزاج لا نفكر إلا في المرأة العاملة لكي تساعدنا على تدبير مصاريف البيت والأسرة ، إلى متى تظل هذه الهوة التي تفصل بين أقوالنا وأفعالنا .
وقد ساهمت المرأة العربية عموما والمرأة الفلسطينية جزء من هذا النسيج الاجتماعي، ساهمت هذه المرأة في تكريس المجتمع الذكوري وتأكيد هيمنة الرجل على مقدرات المجتمع ، فالمرأة العربية تسعد حين تنجب طفلا ذكرا ، وتحزن وتغتم إذا رزقت بأنثى ، وكأن الأنثى شيء يجلب الحزن والغم ، ما زال العربي الجاهلي يطل من أعماقنا ، وما زالت الجاهلية الأولى تعشش في عقولنا ، كان الجاهليون يدفنون البنات وهن أحياء دفنا جسديا ، بينما نقوم نحن اليوم بدفنهن معنويا ، ولكن هل معنى ذلك أننا لا نتقدم على طريق حصول المرأة على حقوقها في المجتمع ، أعتقد أن هناك نقلة نوعية في هذا المجال فقد ساهم رجال كثيرون في نهوض المرأة عن طريق السماح للفتيات بتلقي العلم حتى بتنا نرى فتيات كثيرات يتوجهن إلى الجامعات بعد أن كان البعض يكتفون بحصول الفتاة على الشهادة الابتدائية أو الإعدادية كجد أقصى ، كما بدأت المرأة في شغل بعض المناصب الهامة في مجالات التعليم والصحة والقضاء وخصوصا القضاء الواقف ، و انتشرت المؤسسات النسائية في المجتمع مما زاد من فاعلية المرأة ومن أهمية دورها في بناء المجتمع ، ولكن كل ذلك لا يعطي المرأة حقها ، والمسئولية في ذلك تقع على كاهل التنظيمات المحسوبة على اليسار والتي يفكر قادتها بالعقلية نفسها التي تهيمن على التنظيمات اليمينية ، يدعي الرجل اليساري أنه تقدمي إذا تعلق الأمر بامرأة غير زوجته ، أما في البيت فإنه يتصرف كما يتصرف الرجال العاديون في المجتمع ، ومن هنا بدأت دول الغرب تفتح ثغرة واسعة في نسيجنا الاجتماعي ، حيث حاول الأمريكان فرض كوتا خاصة بالمرأة في انتخابات المجلس التشريعي والمجالس البلدية والمحلية ، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو : هل الأمريكان أكثر حرصا منا على نصف مجتمعنا ؟ ولماذا لا نفتح الباب واسعا أمام مشاركة المرأة في كافة مجالات الحياة ؟! لماذا ننتظر من يفرض علينا ما يجب أن نعمله ؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها .. لماذا كل هذا الحرص من الأمريكان على أن تلعب المرأة دورا رئيسيا في المجتمع ؟ وهل يوجد في أمريكا كوتا للمرأة ؟ إن تحديد نسبة عشرين بالمائة للمرأة فيه إجحاف واضح بحق المرأة ، ولو تصرفنا بمنطق الشريعة الإسلامية في توزيع الميراث لكان نصيب المرأة 1 : 2 بالنسبة للرجل ، أي أن حصتها يجب أن تصل إلى ثلث مقاعد المجلس التشريعي والمجالس البلدية على أساس أن للذكر مثل حظ الأنثيين ، وإذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة أعداد النساء إلى الرجال لكان من حق المرأة أن تحصل على نصف المقاعد ، ولكن تطبيق ذلك يجب ألا يكون منة ومنحة من الرجل يمنح المرأة ما يشاء ويمنع عنها ما يشاء ، يجب أن تناضل المرأة من أجل الحصول على حقها في المساهمة في بناء مجتمع ديمقراطي يتناسب مع طبيعة الظروف التي تمر فيها أمتنا العربية حتى لا نعطي فرصة لمن يريدون العبث بمشاعر النساء وإفساد علاقتهن بالرجل ، لأن نجاح دول الغرب في إفساد المرأة سيؤدي إلى انهيار المجتمع بحيث لا تقوم له قائمة ، لتناضل المرأة من أجل نيل حقوقها ، وليشاركها في هذا النضال من يدعون الديمقراطية والتقدمية لأن صلاح المجتمع في صلاح المرأة ، وقد أكد ذلك الشاعر حافظ إبراهيم رحمه الله حين قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
كما قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : ربوا أولادكم لزمان غير زمانكم ، ولكنا ننسى تراثنا العريق ونصر على أن يكون أبناؤنا وبناتنا نسخا مشابهة لنا وفي هذا دمار للمجتمع وجعله يراوح في مكانه لا يتقدم .