ثلاثية العنف والاحتلال والفساد
تقع النساء الفلسطينيات تحت طائلة عنف الاحتلال بممارساته المتسلطة، وتحت طائلة الانقسام وآثاره الوخيمة، إضافة لكونهن يقعن أيضا ضحية الموروث الثقافي للمجتمع الفلسطيني، فيصبحن لقمة صائغة لثالوث جديد يتكون من دائرة العنف ودائرة الاحتلال ودائرة الفساد كونهن الشريحة الأكثر دفعا لأثمان باهظة في كل مستويات ومجالات حياتهن، بدء من تدني مستويات الخدمة المقدمة لهن ولأسرهن، لاسيما في مجالات تقديم الخدمات العامة، والخاصة بدورهن الانجابي تحديدا. إذ تعاني النساء من الفساد أكثر من الرجال حيث يقلص الفساد من حضورهن ومشاركتهن في مراكز صنع القرار، لقد أكدت العديد من التحقيقات الاستقصائية هذه الرؤية للمشهد العام، إذ تم المساس بقضايا جوهرية بفعل ازدياد الفساد وأشكاله.
لقد ساهمت الصحافة الاستقصائية كأدوات رقابية في كشف الفساد، ولعبت دورا واضحا ومميزا في كشف المستور والتنقيب الحقيقي لمواطن الفساد ومستويات التغول وانتهاك المساحات الخاصة للمواطنين عامة وللنساء خاصة، وزيادة معاناتهم وشكواهم التي لا تجد استجابة بدون تدخل سيدة الصحافة…!
فالتحقيقات الاستقصائية لا تقتصر على انجاز دور فحسب كجزء من المشهد المغذي لطرح قضايا المواطنين للحيز العام بقدر ما هي روح ودافعية العمل الاستقصائي الجاد والهادف لكشف عورة الانتهاكات وأشكال الفساد المتعددة، والتي تمس بصلب حياة الناس وأولوياتهم، وهي أشبه بهمزة الوصل ما بين صوت المواطن المغلوب على أمره، وما بين الجهات صاحبة المسؤولية المطلقة في متابعة وتحسين استجاباتهم للإفصاح.
إذ تقع النساء في مجتمعنا الفلسطيني المعقد كضحايا لدائرة لا تنتهي من العنف الأسري والمجتمعي والسياسي، فلازلنا نرزح تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي الذي يساهم في استمرار حالة اللاسلم واللاتنمية واللااستقرار ويساهم في اهتزاز أعمدة النزاهة لأي مجتمع حر وقادر على التنمية.
مشهد استقصائي يركز على قضايا الشأن العام..
رابط يتشكل ما بين قضايا العنف وانتهاك المساحات الخاصة للنساء واهدار فرص حقوقهن الصحية والاجتماعية والاقتصادية وما بين زيادة أشكال الفساد التي أخذت منحى أكثر قسوة تجاه النساء، ولا يمكن اسقاط ممارسات الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة في انتهاك حقوق أساسية للنساء كحق الحصول على رعاية صحية مناسبة، وحق السفر والتنقل، وحق العمل والتعليم وجملة من الحقوق المهدرة.
يوجد في قطاع غزة فقط 10 أطباء متخصصين في متابعة الأورام ومريضات السرطان، وللطبيب الواحد في اليوم 70 إلى 100 حالة للمتابعة أو الفحص أو إجراءات الخزعة وغير ذلك، ولو توقعنا أن لكل مريضة أو مريض 10 دقائق من وقت الطبيب فهذا لا يمثل إلا مؤشرا مخيفا على الواقع الصحي داخل قطاع غزة، ما يتطلب تحويلات طبية عاجلة خارجية لتلقي العلاجات اللازمة، الأمر الذي يأخذنا في دوامة أخرى من كون المريضات ضحايا اهدار فرص العلاج، وحرمانهن من حق السفر لعدم توفر تصاريح للعبور عبر معبر ايرز أو الحاجة لوقت طويل جدا للتمكن من السفر عبر معبر رفح البري، ويسبق كل ذلك مدى تبني تكاليف العلاج للمريضات في أي مستشفى خارج غزة يتم تحويلهن إليه، فهنالك ما يقارب الـ 5000 حالة مرضية تتلقى العلاج في مشفى المطلع وحده.!
لقد ساهم حرمان النساء من الحصول على حقوقهن في الرعاية الطبية كمريضات السرطان إلى اضطرارهن لتحمل تكاليف مالية باهظة بدء من تكاليف السفر إلى الحصول على الجرعات، وتعرضهن للاستغلال والابتزاز والاعتقال فهنالك ما يزيد عن 14 حالة لمريضات بالسرطان أو مرافقات لهن تعرضن للاستغلال والابتزاز من طرف تجار مخدرات، ومن بين السيدات اللواتي جرى اعتقالهن مريضات بالسرطان وغسيل الكلى، وبعضهن تعرض لضرب مبرح داخل السجون المصرية على يد النزيلات، ويعشن في ظروف إنسانية قاهرة.
الابتزاز والتحايل يلتف على مريضات السرطان
إن حرمان الاحتلال للنساء مريضات السرطان من التوجه لتلقي العلاج الذي هو حق أصيل للمريضات لمشافي الضفة الغربية حيث أي منع للتحويلات المرضية يعني الشروع بقتلهن وموتهن بفعل حرمانهن من حق السفر والتنقل وتلقي العلاج، فهنالك 4705 سيدة مصابة بمرض السرطان، و608 طفل مصابا بالمرض، والعدد بازدياد للأسف
ونظرا لحصار وتقييد مرضى قطاع غزة فلا يوجد غير معبر رفح للسفر عبر الأراضي المصرية، لاستكمال العلاج غير المتوفر أساسا بقطاع غزة فليس هنالك أي مشفى خاص بمرضى السرطان بغزة ولا الإمكانيات ولا العلاج المناسب، فتضطر المئات من السيدات المريضات في قطاع غزة للبحث عن مهرب آخر للعلاج.!!
ويأتي استغلال المريضات في ذات السياق حيث يكن صيدا ثمينا للتجار والمحتالين بمساومتهن بدفع تكاليف غرامات التأخير فقد غدت المريضة والمرافقة دون أوراق رسمية كمبرر لبقائها مدة العلاج الطويلة، وهنا تأتي ثلاثية التقاطع بين الاحتلال بممارساته الجاثمة على قلب النساء وأمراضهن وأرواحهن ومنعهن من العلاج، وبين أشكال الفساد المتمثلة بالابتزاز والتحايل التي يمارسها الفاسدون من تجار تتلاشى قيمهم الإنسانية والمجتمعية، ويساومون النساء على عودتهن من رحلة العلاج بدفع غرامات التأخير مقابل التحايل عليهن بنقل أغراض شكلا تبدو شامبوهات وبداخلهن ممنوعات دون علمهن، بما يتسبب بمحاسبتهن وزجهن في السجون!! وهنا تكتمل الصورة بانكشاف الأمر ليصبحن ضحايا، ويتعرضن لسلسلة مخيفة من العنف بين عدة أطراف، ما يعني انتكاس حالتهن النفسية والجسدية ويهيئ الفرصة لاستغلال آخر من أطراف أخرى كالاحتلال وغيره وهذا ما كشفه تحقيق استقصائي مؤخرا وهنا تأتي أهمية التحقيقات الاستقصائية في تسليط الضوء على قضايا تمس هموم الناس وحقوقهم ومدى تماسها مع أشكال الفساد
ضحايا الأخطاء الطبية وتجاهل المحاسبة لمرتكبيها
خبر وفاة المعلمة إيمان انتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي بشكل واسع وسط مطالبات من عائلتها بمعاقبة طاقم التوليد في المشفى الذي توفيت فيه، على إهمالهم لابنتهم أثناء وبعد الولادة، مؤكدين على حقها في مقاضاته وملاحقته قانونيا، ورغم التقدم بشكوى لوزارة الصحة حينها لم يتلق الأهل أي رد، وتم تحويل القضية إلى نيابة جرائم المؤسسات وكما وصف محاميها الواقع قائلا: “الإجراءات الروتينية والمماطلة تقتل الضحية مرتان! وهذا لسان حال كافة ضحايا الأخطاء الطبية وتجاهل المحاسبة والافصاح عن مجريات اللجان في وقتها ما يفتح الباب واسعا لاستمرار هذا الواقع المرير في المنظومة الصحية، وتساهم بالإفلات من العقاب، وإبطاء حماية الحقوق المكفولة بموجب المعايير الوطنية والدولية.
قضايا العنف بين التواطؤ والإهمال التشريعي وتجاهل سبل الحماية
ما يقارب الـ 380 امرأة قتلن منذ العام 2000 ولازلن يقتلن ونتيجة التابوهات المجتمعية والتكتم فإن عدد من قتلن غدرا بعائلاتهن أكبر من ذلك بكثير، والسؤال الأكبر لماذا تستمر حالات العنف المفضي للموت والقتل العمد واهدار حياة الفتيات والنساء، أين المنظومة التشريعية والتنفيذية التي تحمي النساء، لماذا لم يقر قانون الأسرة للحماية من العنف والذي فاق العمل عليه 15 عاما نقاشا وتطويرا…! هل سيشهد نهاية العام إقرارا مؤكدا للقرار.! لا نعلم، لكننا ندرك أن الإشكالية لازالت تشير للأداء الحكومي والتشريعي والتنفيذي الأمر الذي يساهم في تعزيز الإفلات من العقاب لمرتكبي هذه الجرائم.
ففي قضية المغدورة إسراء غريب وبعد أن تحولت لقضية رأي عام، وساهمت الصحافة الاستقصائية في كشف الكثير من مساحات العتمة في تواطؤ رسمي لبعض مكونات جهات الحماية، هل مطلوب تحويل كل قضايا قتل النساء إلى قضايا رأي عام حتى تأخذ العدالة مجراها؟! وحتى يضع المسؤولون إجراءات رادعة للقتلة؟ وحتى يتم سن قوانين وتعديلها وأخذها على محمل الحياة لأجيال لازالت تحتفي بالموروث وتتجاهل كل الأصوات الرافضة للعنف والقتل.
متاجرة بمساكن الغلابة وإهدار حقوق مستحقيها
وماذا عن الحق في السكن؟ وإهدار فرص عادلة لمستحقيها للحصول على بيوت آمنة، أولئك الذين فقدوا بيوتهم من نساء وأطفال وعائلات ودمرت بيوتهم بسبب العدوانات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، وأصبحوا بلا مأوى وبلا سكن، وحين يلحقون بأحلامهم لتعويض بيوت مدمرة وهم الأحق بها يلاحقهم الفساد، فيبدو غولا ينزع منهم أحلامهم ويبقيهم في العراء بلا أمل، وهذا ما سلط عليه الضوء أحد التحقيقات الاستقصائية في متابعة قضايا فساد في المنحة العُمانية المخصصة لإعمار عدد من المنازل المدمرة في قطاع غزة، لقد أبرز التحقيق بعدد من الوثائق تورط مسؤولين معينين من وزارة التنمية الاجتماعية بأن عدد من المنازل قد كانت لغير مستحقيها، ما أهدر حقوق عائلات أخرى بنيل حقها، لقد تم تجاهل نشر معايير المنحة للمواطنين بشكل واضح ومعلن، وبعضهم تعرض لإلغاء العقد المبرم معه بعد التوقيع، وأسر أخرى أجبرت على توجيه الشكر للقائمين على المنحة وتوثيقها بالفيديو بينما لم يتم إعمار منازلهم رغم توقيعهم عقود بهذا الشأن..! وبالنهاية من المتأثر المباشر من فعل الفساد أكثر من النساء والأطفال والأسر الفلسطينية…!
حماية المستهلك-تقصير في الدور الرقابي
ولا يفتأ الطرح سنويا لقضايا حماية المستهلك فلاتزال التدخلات خجولة للغاية، فكم هي حجم المخالفات الصحية في عملية إنضاج الفواكه، حيث جرى الكشف عن استخدام شركات إنضاج الفواكه مادة تدعى حجر “كربيد الكالسيوم” التي تمنع عدد من الدول استخدامه في عملية الإنضاج واستخدام غاز جاهز في اسطوانات غير آمن يدعى “الاستيلين”، أما المبيدات التي يتم إغراق المزروعات بها وتحصيلها قبل مدة زمنية واجبة للتخلص من السموم، ففي تصريح لأحد المسؤولين في سياق لقاء حول مريضات السرطان أفاد بأنه تم ضبط أحد المزارعين وقد أغرق السبانخ بالمبيدات وقام ببيعه في السوق قبل أن يمر 15 يوما على ذلك ما يعني الإصابة المؤكدة بمرض السرطان، ما الإجراءات التي اتخذت بحق هذا المزارع لا تذكر بسبب تدخل العديد من الجهات؟؟!! إذن منظومة المساءلة والمحاسبة لازالت غير مجدية وتفتقد لمعايير المساءلة والمنع فممن يتوقع المجتمع دورا حقيقيا بالردع، إن الإفلات من المحاسبة هو بحد ذاته محفز ومشجع لاستمرار الفاسدين بمسيرتهم لجني الربح والمال بينما حياة الناس مهدرة ولا تعني للمسؤولين شيئا…!
إن علامات الاستفهام كبيرة حول دواعي التقصير عن أداء الدور الرقابي من الجهات المسؤولة، والأدهى حين يتفاخر بعض المزارعين بأنهم يزرعون أرضا خاصة بهم وبعائلاتهم، والمحاصيل للاستخدام العائلي، بينما باقي المزروعات يتم رشها بالمبيدات والسموم هي للبيع في الأسواق ولجني الربح…!! من يراقب على من؟ ومن سيحمي من؟؟ ومرة أخرى من يتحمل كلفة الأعداد المتزايدة من مريضات ومرضى السرطان، ومن يبحث في الأسباب وفي التدخلات. لا أحد ..!!
ومن المؤسف أننا لم نشهد خلال العامين المنصرمين على الأقل لجان تحقيق تمت من قبل الجهات المعنية، ولم نشهد أي إجراءات وقائية تكبح جماح بعض المزارعين أو التجار …!! التدخلات تأتي فقط فور كشف التحقيقات الاستقصائية عن عورة مثل هذه القضايا ولا يوجد أي مؤشرات لنهج فاعل وحاضنة تشريعية وتنفيذية تحمي المواطنين من تغول الفساد في حياتهم.
غياب الرقابة وتهديد حياة المواطنين
وماذا عن الخطر البيتي القائم في كل بيت غزاوي، ويهدد حياة الأسر بنسائها ورجالها وأطفالها، والذي يتمثل باستبدال بعض فنيو الثلاجات غاز التبريد المسمى غاز “فريون”، والمسمى محلياً بـ (غاز 20)، ببديل خطير وهو غاز الطهي المنزلي الرخيص لتشابه خواص كليهما، مع اختلاف جوهري وخطير بأن غاز الطهي مشتعل والآخر لا يشتعل، ما يشكل خطر كبير على المواطنين ويهدد أمنهم وسلامتهم في حال حدث تسرب للغاز من الثلاجة.
إذ يقوم بعض الفنيين بخداع المواطنين بالتحايل على ضاغط الثلاجة بتعبئته بغاز الطهي الطبيعي، وفي هذه الحالة يستخدم اسطوانة أخرى ممتلئة بغاز الطهي، ما يؤدي إلى خطر كبير يهدد المواطنين، فغاز الطهي مشتعل، وتسربه قد يؤدي الى إحراق المنزل، وربما إصابة وتضرر من يقطنونه، وذلك مؤكد بعدة حوادث في البيوت، والأمر برمته غير خاضع للرقابة إلا بتلقي شكاوى من المواطنين، وبالرجوع للمسؤولين فالإجابة جاهزة لا يوجد عدد كافي من الموظفين ليفتشوا ويتابعوا الفنيون أو ورشاتهم…!!
قضايا كثيرة وتدخلات باهتة…!!
كثيرة هي القضايا التي يعاني منها المواطنون عامة والنساء خاصة والتي تنال من حقوقهم بالتغافل عن الاسترشاد بتعزيز الشفافية والنزاهة والمساءلة كقضايا المساعدات الإنسانية، وقضايا القطاع الزراعي وحماية المستهلك، ومعايير المنح والإعفاءات الجامعية، والفساد المستفحل بإهدار حق السفر والتنقل والشركات التي باتت موجودة بشكل شرعي وفي العلن دون أي مواربة، وملف التعيينات للوظائف العامة وفي القطاع التعليمي، والعشرات من القضايا التي تمس حقوقا أساسيا للمواطنين.
بات من المؤكد أن الصحافة الاستقصائية تلعب دورا جيدا في الكشف عن شبهات ومواطن الفساد في قضايا مجتمعية وإنسانية وتمس كافة شرائح المجتمع، وهي أيضا في سياق دورها المجابه للفساد بكل أشكاله تسهم بإحداث تغيير إيجابي لدى صناع القرار، فلولا الاعلام والدور الاستقصائي لن يلتفت صناع القرار والمسؤولين لهذه القضايا.
إن دائرة العنف المتداخلة مجتمعيا ولفئات أكثر هشاشة تزداد مع زيادة ضعف وتهاون الأداء الحكومي ودوره في ملاحقة الفاسدين وتحصين بيئة النزاهة والشفافية والمساءلة لتحقيق رؤية أن يصبح مجتمعنا خال من الفساد.
هداية شمعون / كاتبة واعلامية