في مواجهة مخاطر الفساد المبني على النوع الاجتماعي
كتبت / هداية شمعون
“إن العنف ضد المرأة ليس أمرًا حتميًا. فالسياسات والبرامج المناسبة تحقق نتائج. ويعني هذا أن الاستراتيجيات الشاملة والطويلة الأمد التي تتصدى للأسباب الجذرية للعنف، تحمي حقوق النساء والفتيات، وتعزز حركات حقوق المرأة القوية والمستقلة. التغيير أمرٌ ممكن، وقد حان الوقت لكي نضاعف جهودنا حتى يمكننا معًا القضاء على العنف ضد النساء والفتيات بحلول عام 2030”.
أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة
يتقاطع الفساد المبني على النوع الاجتماعي، الذي يتم فيه استغلال علاقات القوة أو السلطة الممنوحة للشخص بحكم منصبه للحصول على منفعة خاصة تحمل الطابع الجنسي، ويتشابه مع الأشكال الأخرى من العنف المبني على النوع الاجتماعي؛ فبالرغم من الجهود الدولية والمحلية المتعددة لمواجهة العنف المرأة على مدار سنوات طويلة إلا أن العنف ما زال يتسع وتتعدد أشكاله.
هذا التشابه في أسباب وجذور المشكلة يجعل النساء أكثر تعرضاً لمخاطر الفساد، وذلك بسبب موازين القوة الحالية في المجتمع التي عادة ما تميل لإعطاء الرجال الدور الأكبر في الحياة العامة، وفي صنع القرار والتحكم في الموارد، والوصول إلى الخدمات العامة والموارد المالية، وفي الوصول إلى صنع القرار بما في ذلك المشاركة السياسية كمواطنين وكمشرعين وموظفي الخدمة المدنية[1].
يؤثر الفساد في مجموعات معيّنة من الأفراد والجماعات المهمشة، فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الفساد إلى استبعاد الفقراء من الحصول على السلع والخدمات العامة والمساعدات التي توفرها الحكومة، أو يحدّ من إمكانية المطالبة بالحقوق واللجوء إلى القضاء؛ فالمجموعات الضعيفة، مثل: النساء أو الأطفال أو الأشخاص ذوي/ات الإعاقة والمسنين والفقراء، تتأثر بالفساد تأثراً شديداً إذا كانت مضطرة لدفع الرشاوي أو الحصول على واسطة للحصول على الخدمات العامة وخدمات الحماية الاجتماعية.[2].
إن الفساد يحرم النساء من القدرة على الوصول إلى حقوقهن الاجتماعية والاقتصادية ويعرض النساء لأشكال متنوعة من الفساد كالابتزاز الجنسي والرشوة الجنسية، يمنع الفساد النساء من الوصول للعدالة وللوظائف والتعيينات التي يتنافسن فيها على قاعدة تكافؤ الفرص. كما يفاقم انتشار الفساد من حالة الفقر بين النساء ويزيد من أعبائهن الاجتماعية، ويغيب شرائح كبيرة منهن عن تلقي الخدمات الأفضل في الوقت المناسب.
إننا بحاجة دوما لطرح العديد من الأسئلة لفهم مدلولات المصطلحات والخطاب المتوقع من المؤسسات النسوية والمجتمع المدني، وبحاجة لقراءة مطلوبة لفهم الدور النسوي والمؤسساتي المطلوب وفقا للسياق القانوني والمجتمعي والثقافي لبلورة التدخلات الأكثر ملاءمة واختيار الأدوات الأكثر نجاعة للوصول إلى الأهداف المطلوبة.
ازداد الاهتمام لدى المؤسسات النسوية للانخراط في الجهود الوطنية لمكافحة الفساد، وتعزيز قدرات ومشاركة النساء في هذا المجال، فقد ساهمت بعض المؤسسات في إطار المشاركة في اعداد الاستراتيجيات الوطنية لمكافحة الفساد، كاستراتيجية مكافحة الفساد للأعوام 2015-2018، وعلى قدم هذه الاستراتيجية -إلا أنها كانت تمثل بداية ممأسسة في حينها وعدم تحديثها إنما يشير إلى مدى كونها ليست أولوية حتى الآن، أو قد يكون لهذا سياق آخر بحاجة للتحليل والفحص في ذات السياق-
بالإضافة لمحاولات الإنتاج المعرفي في المشهد القانوني من خلال دراسات وأدبيات تمت في ائتلاف أمان وشبكة ند “نساء ضد الفساد”، والذي يهدف إلى الحد من الفساد القائم على أساس النوع الاجتماعي في تقديم الخدمات في فلسطين.[3]
لقد دعت خطة التنمية المستدامة لعام 2030 إلى تكثيف العمل على التقليل في معدل الفساد كجزء أساسي من الجهود الرامية إلى بناء مجتمعات سلمية وشاملة في إطار الهدف 16، وهذا اعتراف متكرر بأن الفساد يمكن أن يدمر التنمية المستدامة، ويقوض دعائم المجتمع فالأمم المتحدة تعتبر أن الفساد هو أحد أكبر المعوقات أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 وهو كذلك بالفعل، فهنالك 90 مليار دولار سنويا تهدر بفعل الفساد في العالم العربي، ماذا لو استثمرت هذه الأموال المهدرة في قطاعات الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية وغيرها من قطاعات حيوية، ينطبق الأمر علينا في فلسطين فتكلفة الفساد باهظة جدا والنساء أكثر من يدفع الثمن.
النوع الاجتماعي والفساد:
يُؤثر النوع الاجتماعي والصورة النمطية بشكل متفاوت على النساء[4]، مثلا:
الإخلال بفرص الحصول على بعض الخدمات العامة من قبل النساء الأمر الذي يُلحق الضرر للمتمتعين بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فتكون النتيجة اللجوء إلى الدفع نحو المزيد من استخدام أشكال الفساد للحصول على الخدمات العامة، وبالتالي انتهاك حقوق الإنسان. (الارتباط وثيق فيما بين انتهاك حقوق الانسان وازدياد الفساد)[5]
إلى ذلك، تواجه النساء اللواتي يقمن برعاية أسرهنّ بشكل رئيسي الفساد بشكل متكرر عند الحاجة إلى الخدمات العامة، مثل: الصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي. إذ أنهنّ مجبرات على دفع الرشاوي التي تكون نسبها مرتفعة غالباً مقارنة بالرجال، مما يعزز الحلقة المفرغة للفقر.
إن حاجة النساء إلى الرعاية الصحية الإنجابية، يمكن أن تضعهنّ تحت رحمة مقدمي الخدمات الصحية الفاسدين.
إذ قد تتعرض الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع إلى رشاوي نقدية أو يُطلب منها تقديم مقابل شخصي، مثل: تقديم خدمات جنسية مقابل الحصول على الحق الطبيعي، مثل شغل المناصب العامة، مما يعوق قدرتها على كسب دخل أو حتى الحفاظ على أعمالها.
أشكال وجرائم الفساد من منظور النوع الاجتماعي:
ليست كل الرشاوي تنطوي على الأموال، لقد سلطت الدراسة الرئيسية لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بعنوان” حالة تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد: التجريم وإنفاذ القانون والتعاون الدولي الضوء على أن المستهدف من مصطلح ومفهوم الميزة غير المستحقة في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد هو التطبيق على أوسع نطاق ممكن، أيضا لتغطية الحالات التي تمنح فيه العناصر غير الملموسة أو المزايا غير المالية (مثل المناصب والألقاب الفخرية أو المعاملة التفضيلية أو الخدمات الجنسية) بقدر ما تخلق أو قد تخلق إحساسا بالالتزام من جانب المتلقي تجاه المانح. هنالك أدلة على أن استغلال الجسم البشري- سواء جنسيا أو غير ذلك- كعملة في الفساد، ومن الصعب دراسة التقارير المتعلقة بطلب الخدمات الجنسية بدلا من الرشاوي غير النقدية نظرا لوجود القليل جدا من البيانات المتاحة[6].
الابتزاز الجنسي كجريمة فساد[7]
يُعتبر الابتزاز الجنسي شكلاً صامتًا من أشكال الفساد، يختبئ على مرأى من الجميع، وحتى وقت قريب، وكونه صامتا ومخفيا لم يكن مرئيا لتظهر دلالات معالجته، بدأت عملية مناقشته أو الاعتراف به كظاهرة مميزة داخل إطار العنف القائم على النوع الاجتماعي كجريمة فساد. ومحاولة التعرف على عناصره وأركانه في هذا الإطار كونه إطارا واسعا، وحسب منظمة الشفافية العالمية يُعتبر الابتزاز الجنسي أحد أكثر أشكال الفساد القائمة على النوع الاجتماعي انتشاراً. وتشير الأدلة إلى أنه “حين يقع استخدام الجنس بالإكراه، ويكون ذلك قائماً على تحيز مبني على النوع الاجتماعي يطال المرأة بشكل خاص. حيث تُكره بعض النساء على تقديم خدمات جنسية للحصول على خدمات عامة، بما في ذلك خدمات الرعاية الصحية والتعليم”[8].
عرفت المنظمة الدولية للقضاة (الابتزاز الجنسي) بأنه: “شكل من أشكال الاستغلال الجنسي والفساد الذي يحدث من أشخاص لديهم مراكز سلطة، عندما يسعى المسؤولون أو أرباب العمل باستغلال سلطتهم أحيانا مقابل طلب خدمة جنسية، وبالتالي، فإنه يعتبر شكلاً من أشكال الفساد الذي يمثل الجنس فيه المقابل (المنفعة)
التحرش الجنسي كأحد أشكال الفساد:
يُعتبر التحرش الجنسي في أماكن العمل واحد من أشكال الفساد الإداري والأخلاقي، كونه يرتبط بإساءة استخدام السلطة لتحقيق رغبات شخصية جنسية من قبل المسؤول /ة اتجاه مرؤوسيه/ا، أو موظف مسؤول عن تقديم خدمات/ مزود خدمة، اتجاه المواطنات المنتفعات/ متلقيات الخدمات، فهو يقع من شخص لديه سلطة على شخص أقل سلطة. [9]
ومن أسباب انتشار ظاهرة التحرش الجنسي بالمرأة، سلبيتها وتجنبُها الحديث أو الإبلاغ عن تعرضِها للتحرشِ الجنسيِ والعنف في العمل، لخشيتها من فقدان عملِها، ومن الأضرار الاجتماعية الناجمة عن البنى الثقافية للمجتمع، مما يجعلُها تتحمل كل ما يصيبُها من أذى نفسي ومعنوي ومادي وكل ذلك في ظلِّ حاجتِها إلى المال والوظيفة. يعزو ذلك ضعف النص القانوني، الصريح إن وجد، والكافي لحماية المرأة وإنصافها، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بإثبات تعرضها للعنف والتحرش الجنسي على وجه الخصوص.
وهناك دراسات[10] تربط بين التحرش الجنسي، وانتشار الفساد، وغياب الرقابة في العالم العربي، فالفساد المالي والإداري في بعض أماكن العمل في البلدان العربية يؤدي بصورة ما إلى الفساد الأخلاقي، خاصة وأن الكثير من حالات التحرش الجنسي ضد المرأة في العمل تنتج من رؤسائها الرجال، لما يتمتعون به من سلطة ونفوذ وانعدام الرقابة.[11]
الرشوة الجنسية كجريمة فساد
لقد أصبح ما يُسمى بمصطلح ” الرشوة الجنسية”، مصطلحا عالمياً كجريمة فساد تم تطويره من قبل الرابطة الدولية للقضاة، وقد عرفته بأنه ” منح موظف حكومي مزايا جنسية غير مستحقة بقصد التأثير عليه لكي يقوم بفعل ما أو يمتنع عن القيام بفعل ما لدى أداء واجباته الرسمية”.[12]
تتميز الأفعال التي تدخل ضمن إطار جريمة الرشوة الجنسية بعدم الظهور أمام الملأ بسبب وقوعها في أماكن مغلقة ومن شخص له سلطة ونفوذ في اتخاذ القرار، وهناك عدم وضوح لتعريف فعل “الرشوة الجنسية ” في منظومة معظم قوانين العقوبات العربية، الأمر الذي أبرز الحاجة لتوضيح تعريفها ودلالاتها كجريمة فساد، بموجب قانون مكافحة الفساد.[13]
إن مكافحة الفساد المبني على النوع الاجتماعي بحاجة لمزيد من النقاش والبحث والتحليل وفق سياقنا الثقافي الفلسطيني، وبحاجة إلى توصيف حدوده وأشكاله وعلاقته بالمنظومة القانونية والاجتماعية والفكرية في مجتمعنا، وهي بالتأكيد مسؤولية جماعية تسبقها مرحلة التثقيف والتوعية كمرحلة أساسية من أجل مواجهته ومحاربته بشتى الوسائل والطرق للوصول إلى رؤية تمثلنا جميعا تتلخص في “مجتمع خالي من الفساد”، فكافة القطاعات الحكومية والأهلية والنسوية وصناع القرار وراسمي السياسات وموظفي القطاع العام ومقدمي الخدمات العامة لهم، بالإضافة للمواطنين والإعلاميين والاعلاميات وكافة الشرائح الأخرى لهم دور فعال في الحرب على الفساد.
لذا يجب التأكيد على توفير حاضنة قابلة لحماية النساء اجتماعية وثقافية تُمكن إخراطهن لبذل جهود مضاعفة في مواجهة الفساد المبني على النوع الاجتماعي، كما يجب أن تلمس النساء أهمية وجدوى دورهن في الإبلاغ وتقديم الشكاوى والمشاركة بكافة الجهود لمكافحة الفساد، ليدركن أن دورهن ومساهمتهن ستحسن من مستوى الخدمات المقدمة لهن، وستساهم في تعزيز الوصول لحقوقهن، والدفع بعجلة العدالة الاجتماعية، والمساواة، وتكافؤ الفرص.