مدلولات الحياة في الحجر المنزلي
كتبت هداية شمعون
هنالك حيث الدهشة الأولى، تلك التي تعانق فيها كل سبل الراحة، تترك الإرهاق الجسدي الذي نال منك دهرا، تتنقل بسلاسة داخل منزلك، بهدوء وروية دون ركض، ودون حركة صاروخية تجعلك بعشرة أيدي وعقل واحد، تنزاح عنك ملامح الإرهاق والاجهاد، تطفو وكأنك تسبح في عالم آخر كان حلما بعيد المنال بتصورك.. هأنت ذا بعد عدة أيام، يبدأ الكسل يعرف طريقه لجسدك، القلق هو سيد الموقف ما هي سبل التعايش لمدة أطول في الحجر المنزلي؟!
حسنا كشخص بتفكير إيجابي فهو وقت مهم للتأمل والقراءة والالتزام بمهامات العمل وأيضا مهمات المنزل، لا تلتفت كثيرا لأصوات الاحتفالات المجتمعية والأصوات التي تعتقد أنه وقت المشاركة الفعلية المتساوية نساء ورجال فهذه لم تكن معركتك من قبل، هنالك تشاركية ليست بالضرورة في المطبخ فقط؟!! الصرعات الضاحكة والسخرية من الأدوار بين الرجل والمرأة أمر آخر بات يشكل قلقا لك..! إذن كيف يمكن التعايش مع أزمة القلق المستمرة مما يدور في العالم؟!!
لنرتب الأوراق من جديد.. أقصد لنحاول فلا غضاضة من المحاولة مادام هنالك وقتا وإرادة..
حسنا ليس هنالك روتينا يوميا واضحا لذا العودة للانتظام هي أول خطوة للسيطرة على السلامة النفسية، وترتيب المهام ووضعها في أولويات، إذن بات واضحا أن هنالك الكثير لإنجازه، مهمات آنية وعاجلة، متابعة للوضع عن كثب، تشبيك وتواصل، عصف فكري، اشتراك في لقاءات ثقافية خارج الحدود الجغرافية، هنالك تفاكر على مدار الساعة بقضايا تهمنا جميعا وإن اختلفت طرقنا لذلك، ما حجم التحولات في العلاقات الاجتماعية للأسر، ما تأثير الكورونا على تقليص مساحة الكلمة تحت سيطرة بعبع الاشاعة؟!! ما مدى تغول الأجهزة الأمنية فيما يقال أو ما تفكر به؟؟! إذن ما الذي يحدث في الخارج…؟! وأين نحن من كل ذلك.!
هنالك مساحات الكترونية جميلة للتفاكر وإعادة صوابية بعض المؤشرات، هنالك امتداد ثقافي أيضا يعيق الحماية الكاملة من الفايروس وهي التخلي المجتمعي عن الوقاية والحرص الشديد المطلوب، هنالك تهاون كبير للأفراد في حماية أنفسهم وحماية عائلاتهم، هنالك تقاعص عن الالتزام المنزلي فتبدو وكأنك في سياق مجتمع آخر، وجبهة أخرى يتوجب خوض المعارك فيها معارك الكلمة والتصويب والنصيحة والإرشاد.
لقد زالت الدهشة الأولى ولم تعد موجودة بات هنالك شكل آخر للعلاقات الالكترونية علاقات العمل وعلاقات الأصدقاء وعلاقات المجتمع، آلية التواصل فرضت جوا آخر مختلفا وينبغي التعاطي معه، من أوقات العمل المعتادة بت مجبرا على التغييرات ليمتد هذا الوقت لأوقات أخرى من منتصف النهار وساعات الليل نتيجة البقاء في المنزل، وغدا التواصل يأخذ مدى مختلف له علاقة بمدى وقودك الذي تشعل به نيران نشاطك أو التماهي مع الحالة والاكتفاء بما ترشح به الحالة لكل تجمع.
لماذا تجد نفسك في قمة النشاط والعطاء مع مجموعات أخرى وتكون أنت ذاتك، بينما مجموعات أخرى تشعر أنها تسلبك هذا العطاء…!! هنالك تركيبة لم تعد مقبولة الكترونيا كما كانت مقبولة على مضض واقعيا بفعل النظام؟ كل ما يأخذ شكل النظام يملك مقصا يهذب به كلماتك أفعالك تصرفاتك، لكنه الكترونيا لم يعد يهذب انه يقص.. يقص حريتك يقص تألقك يقص أفكارك.!! وليس بالضرورة أن يقوم بذلك أعلى من بالهرم بل قد يمارس ذلك أكثر من كان يعاني من النظام البليد سابقا.!!
إذن هنالك تحولات شئت أم أبيت تتغير، تأخذ شكلها بعد عدة إشارات ومؤشرات لمدلولات الواقع، إن إعادة أنسنة العلاقات الالكترونية هي مهمة قاسية لكن وقتها قد آن شئنا أم أبينا..!!
إنها الروح التي يجب أن يكون لها الخلود لا الألقاب ولا المواقع ولا المناصب، هنالك حتمية للبقاء، هنالك انكشاف أكبر لمساحات النور ومساحات الظلمة، لم يعد هنالك مساحات وسطية تجبرك أن تغمض عينيك عما يحدث، هنالك وضوح كبير في تراتبية الأشياء، في استمرارية الحياة.. إنه الوقت الذي تتخلص فيه من كل الأعباء وكل القيود التي كبلتك كثيرا..
عليك أن تبادر بالقبول لهذه المساحة من الشفافية في مشاعرك وعليك أن تبقى بهذه الشفافية حتى لو كانت بابا لأذيتك، فالنور سيحميك وسيحمي نقاءك، عليك أن تعيد المجد للتأمل وللسمو لا تنخرط بتفاصيل ضائعة تنهب قلبك وتحرق وجودك، لا مساحات الآن إلا أن تكون إنسانا.
إذن خارطة يومك قد بدأت تتجسد فعليا، صفاء ذهنك يسمح لهذا الوقت العصيب أن يمر بهدوء وسلاسة، إنها فرصة ثمينة عليك أن تقتنصها، ترتب بيتك الداخلي وتشعل النور لتجد كم أنت في قمة عطائك، قادرا على انجاز مهامك والتمتع بوقتك لهواياتك ومواهبك، لقراءتك وأفلامك المفضلة، إنه وقت عليك أن تستثمره بما تحب، عليك أن تحب شيئا، لا تترك ذاتك تسبح في محيط أفكار بلا حدود، حدد ما تريد، اكتبه على ورقة، تخلص من التوتر والقلق وتنفس هذا الوقت الصعب يمر على العالم بأسره!! هل تدرك ذلك فيما مضي وككائن غزي كنت دوما تعاني وحدك ويلات الحروب والحصار والقهر والقمع، إنها المرة الأولى التي يشاركك العالم بكل تفاصيلك تبدو متماثلا للبشرية شعور غريب مختلف، ما تشعر به يشعر به أحدهم في فرنسا وأسبانيا وبلاد العرب.. في كل مكان إنه تشارك لا مثيل له، إنها تجربة جديدة!! بإمكانك أن تهدأ قليلا لست مجنونا وحيدا أعزلا تكره كلمات الشفقة والمواساة لأنك في عداد أهل الكهف.. لقد بات العالم بأكمله كهفا وكل من فيه مثلك تماما…! يبدو الأمر مختلفا لك حين تراه تشعر به وتحياه..
إذن برنامج بسيط يعبر عن اهتماماتك سماتك ومن تشاركهم الحجر المنزلي مطلوب، يمكنك تغييره تبديله، كسر الروتين ببعض الرياضة والموسيقى والتسامر مع الأصدقاء عبر برامج مجانية، أيضا مهم أن تبدع تكتب أو ترسم أو تؤلف أو تكون مهرجا مع أطفالك، الأهم أن تشعر بالطمأنينة لا القلق، أن تشعر بالهدوء والسكينة لا التذمر والشكوى الدائمة، هذه مساحتك الآن مادام الأمر ليس بيدنا وإنما هو عناية من الله بالبشرية وبعالمنا الصغير، لا ترهق عقلك بالتفكير الدائم لأمور تعرف جيدا أنك عاجز عن حلها، شعور العجز شعور قاس فلا تؤذي نفسك..!
عد للدهشة الأولى واعتبرها فترة نقاء وصفاء وسكينة لنفسك، واسكب لروحك نقاء الطبيعة وابدأ يومك بمنظور جديد، وكن أنت كما تحب لا كما يحب الآخرون..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية في غزة