وظلم الأقربين أشد مضاضة..
كتب طلال عوكل
إذا كان تاريخنا الحديث كفلسطينيين طافح بالذكريات السوداء والأليمة، حتى لم نعد قادرين على إحيائها كلها، فإن المرور على بعض أهم وأخطر هذه الذكريات بدون التوقف عندها والتوقف مليًا قد يصبح جزءًا من قيمٍ تبدلت إلى الأسوأ مع مرور الوقت.
التاريخ الفلسطيني الحديث مليء بذكريات المجازر واغتيالات القادة والتحولات الخطيرة والنكسات العربية والسياسات الخاطئة، فإن نحن أولينا هذه الذكريات الاهتمام الذي تستحق، فإن أيام الشعب الفلسطيني ستتحول إلى ملطمة دائمة، غير أن عدم الاهتمام بالقدر الذي تستحقه كلّ تلك الذكريات وكلها تستحق الاهتمام، إلا أننا لا نستطيع أن نمر مرور الكرام على بعض المفاصل الخطيرة. خلال هذا الشهر “حزيران” مرت مناسبتان تنطويان على أهمية خاصة نظرًا لخطورتهما، الأولى ذكرى هزيمة حزيران عام 67 وتصادف مع اليوم الأول لعيد الفطر، والذكرى الثانية مرور 12 عامًا على الانقسام الفلسطيني الذي وقع في الرابع عشر من الشهر ذاته.
لا تريد آذان بعضنا أن تسمع وإن سمعت فإنها لا تريد أن تصدق ما يقوله العدو الصهيوني عن هاتين الواقعتين من اعترافات كانت كفيلة بأن تستفزّ الوطنية الفلسطينية إلى الحد الذي يفرض عملية المراجعة والتقييم والتغيير، غير أن بعضنا يصم آذانه عن قصد طالما أن ما جرى ويجري يُهاتف حساباته الباطنية.
شمعون بيريز الصهيوني العتيق، قال حين وقع الانقسام بأنه ثالث أهم إنجاز تاريخي تحققه الحركة الصهيونية، بعد إنجاز قيام الدولة عام 1948، وهزيمة العرب عام 1967. واقعيًا، لم يبقَ لدى الطبقة السياسية الفلسطينية على اختلاف مشاربها كلمات إلا وقيلت في وصف مخاطر وآثام الانقسام، لكن هذا الإسراف اللغوي لم يكُن سوى محاولة لتبرئة الذات من قبل البعض وليس لغرض القيام بما يتوجب لإفقاد إسرائيل هذا الانجاز.
النكبة الأولى التي وقعت عام 1948، كانت تشير إلى نجاح الحركة الصهيونية في تحقيق المرحلة الأولى من المخطط التوسعي الذي ستكون مرحلته الثانية السيطرة على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، وهو ما وقع في النكبة الثانية عام 1967، على أن النجاح في المرحلة الثانية من المخطط الصهيوني كان بحاجة إلى موقف ينطوي على تحولات كبيرة في الصراع، تجعل إسرائيل قادرة على بسط سيادتها وسيطرتها على ما تُسميه يهودا والسامرة. كانت مرحلة أوسلو قد وفّرت الظروف المناسبة، لكن الانقسام الفلسطيني شكّل التوقيت الأفضل لتحقيق الأهداف الصهيونية، بما يقتضيه ذلك من تغيراتٍ ضرورية في الوضع الفلسطيني وفي الأوضاع العربية المحيطة، وعلاقاتها بالقضية الفلسطينية.
لا تُحصى المخاطر والآثار السلبية التي نجمت وتنجم على الانقسام الفلسطيني، ويعرفها الجميع، لكن كل طرف يُلقي بالمسؤولية عنها على الطرف الآخر. لقد أدى الانقسام إلى تشويه والمس بالهوية الوطنية الجامعة، وألقى شكوكًا على مسألة التمثيل الموحد للشعب الفلسطيني، وهذا حوّل الشعب إلى جماعاتٍ تتسول الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وتُعاني أشد المعاناة الاجتماعية والنفسية.
لقد وفّر الانقسام الذرائع لإسرائيل لكي تنكّل بالشعب الفلسطيني الذي تتآكل قواه المتصارعة على السلطة، كما وفّر المزيد من الذرائع لتهرّب جزءٌ كبير من النظام العربي والدول الإسلامية من القيام بمسؤولياتهم تجاه القضية الفلسطينية.
المشهد اليوم يُشير إلى تفكك وضعف الحالة الفلسطينية وتعمّق أزمة الثقة بالفصائل والقيادات، وبهتان الهوية الوطنية واستعداد العرب للتعاطي مع صفقة القرن. تمضي صفقة القرن في طريقها نحو التنفيذ العملي عبر الإجراءات الأحادية الجانب من قبل الحلف الأمريكي الإسرائيلي، وبتعاون وتحفيز وتنسيق مع النظام العربي الرسمي، فيما يتبجّح بعض الفلسطينيين بأنهم سيطيحون بتلك الصفقة، بل أن بعضهم يدّعي أنها في غرفة العناية المركزة. يظنّ البعض أن الشعارات تتفوّق على الوقائع، بينما تقول الوقائع أن القدس تُصادر، والأونروا وحق العودة تجري تغييبهما، والأرض تجري مصادرتها، ومؤتمر البحرين يشكّل حلقة أساسية في تجاه فرض وتنفيذ ما يُسمى بالسلام الاقتصادي. لقد قرأ وسمع الجميع تصريحات المستوطن الصهيوني ديفيد فريدمان سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، وقرأ الجميع وسمع تعليق غرينبلات على ذلك، حين قال أن ثمة وجاهة في تصريح فريدمان الذي أعطى الحق لإسرائيل بمصادرة الضفة الغربية.
هل تكتمل هكذا الصورة، لما ينطوي عليه المخطط الأمريكي الإسرائيلي، وإن كان الأمر كذلك، فهل يعترف الفلسطينيون أن انقسامهم يتحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية عمّا وصل إليه الحال، وأنهم إزاء هذه النكبة التي تُعرف بالانقسام لا يستطيعون إلقاء المسؤولية على المجتمع الدولي أو على العرب، وإنما هُم من يتحمل المسؤولية عن هذه النكبة؟
قد لا يعترف البعض عمّا اقترفته يداه، لكن التاريخ لا يرحم، والشعب أيضًا لن يرحم هؤلاء.. ولو بعد حين.