صونوا كرامتنا
كتب وائل بعلوشة
استناداً إلى الرواية التاريخية التي وصلتنا عبر تجارب الأمم والشعوب على اختلافها في مشارق الأرض ومغاربها وتحديداً تلك التي استوعبت الدرس مبكراً، فإن تحقيق الحد الأقصى للعدالة الاجتماعية كان المرتكز الرئيس الذي بنيت عليه كل القوانين والتشريعات والاتفاقيات والمعاهدات، باعتبارها -أي العدالة الاجتماعية- الاستحقاق الإنساني الأساس الذي يصون ويحفظ كرامة الإنسان.
تقوم العدالة الاجتماعية بالدرجة الأولى على مبدأ المساواة، وتكافؤ الفرص، ولتحقيقها بالمعنى الفعلي، يجب إقران تكافؤ الفرص بجملة من الاشتراطات المبنية على عدم التمييز بين المواطنين، بل وإزالة كل ما من شأنه تحقيق هذا التمييز، والسعي لتوفير الفرص التي يعد توفيرها بكل حدودها الدنيا والقصوى إلزاماً يستوجب التنفيذ من قبل الدولة بكل مكوناتها، سواء بوضع السياسات أو اتخاذ الإجراءات الرامية لتحقيق التمكين الحقيقي للأفراد داخل المجتمع.
وبالمقاربة مع الحالة الفلسطينية المصابة بكثير من الإحباط نتيجة الظروف والعوامل التي نعرفها جميعا، فإن تكافؤ الفرص بمعناه الحقيقي بات غائباً عن أجندة كل من يدير الشأن العام، الذي جنح للاستعانة بأهل الولاء، وأسقط عن سبق إصرار حق الوطن في استثمار طاقات أبنائه.
الأخطر باعتقادي، ليس غياب تكافؤ الفرص بمعناه الحقيقي “بأنه الوضع الذي يزيل الفوارق الاقتصادية بين الطبقات المجتمعية”، بل قيامنا جميعاً ولا استثني في هذا المقام أحدا بتوزيع الفرص المتوفرة على محدوديتها على قاعدة (يا بخت من كان النقيب خاله)، فحصولك على الفرصة التي تليق بك، أو تلك التي- قد لا تستحق- يستند في الأغلب على درجة قربك أو بعدك من دوائر صنع القرار، وجماعة الحكم.
فجماعة الحكم رأت في صمت المواطن الذي ارتضي هو الاخر لنفسه أن يبقى في سياق المغلوب على أمره تحت بند (سلكني وخد عباءتي)، لم تكتف بذلك فحسب، بل وصلت في إجراءاتها لأعلى مستويات القهر الممنهج بفرضها مزيداً من الضرائب التي تثقل كاهل ذاك المغلوب على أمره، وإجباره على الالتزام بما نص عليه القانون صراحة، دون أن تنظر للوجه الآخر للقانون الذي يوجب عليها توفير الخدمات كافة لتحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم لمواطنيها.
ولقطاع غزة في هذا السياق خصوصية تذكر، فليس للصحة ولا التعليم، ولا الابتعاث العلمي…. الخ مكان في أجندة أحد، والشماعة لتعليق الاخفاقات هنا جاهزة، ومحصورة في الاحتلال والحصار وكل ما أفرزه من إغلاقٍ للمعابر، وتردٍ للأوضاع الاقتصادية، ولكن الحقيقة أن لا أحد أيضاً معنيٌ ببذل أي جهود تذكر لإنهاء مآسي المواطنين الذين بات الحمل على كاهلهم أثقل من أن يُحمل.
ولا أرى أن العجز عن وصف الحالة الفلسطينية يبدو غريباً، فحالتنا المتشابكة بين احتلال، وتخاذل، وإخفاق، وفشل (شاركنا فيه جميعاً)، أفرز لدى المواطن الذي يعي حقوقه كاملة ولا يعي كيف له أن يحصل عليها حالة من الانطفاء.
العالم بكل مكوناته، وتشريعاته، وقوانينه، يمكن أن يفهم ويعي، ويتصور كيف ستكون حياة الناس تحت الاحتلال، لكنه لن يستوعب كيف لمريض يعد الدقائق المتبقية له على قيد الحياة دون أن يحصل على ما يستحق من العلاج، وعدم تمكن أخر من مغادرة البقعة التي ضاقت على أهلها لشق طريقه نحو مستقبل آمن، أو عجز ثالث عن الحصول على مواد غذائية امنه تبقيه على قيد الإنسانية.
لكن الخروج من هذا المربع المظلم ليس مستحيلاً، إذا ما توفرت الإرادة الحقيقة، للتخلي عن منطق الاستقواء، وتحلينا بكثير من المسئولية والوطنية، التي لن توفر لنا متطلبات العيش، وتحقيق العدالة الاجتماعية بمختلف أشكالها فحسب، بل يمكن لها أن تؤسس لاحقاً لتحرير حقيقي للأرض، فصون كرامة الإنسان هنا، مقدمة على ما سواها.
ولأننا شعب لازال ينشد الحرية والاستقلال وتقرير المصير ونواجه اسوأ احتلال، وأسوأ انقسام، لا يمكن أن نواجهما بمزيد من الحط من كرامة الانسان، ولا عبر التهرب من المسؤولية المضاعفة التي تلقيها علينا الخصوصية الفلسطينية، فالمواطن الذي احتمل حروباً ثلاثة- برضاه أو رغم أنفه، وحصارا تجاوز العقد، يستحق أن يتعزز صموده بصون كرامته أولا وبتوفير احتياجاته وحمايته من العوز والسؤال.