نحو إنهاء الانقسام السياسي الآن وليس غدًا
كتب محمد جبر الريفي
طيلة الفترة الممتدة من وقوع النكبة في مايو عام 48 إلى توقيع اتفاقية أوسلو عام 93 من القرن الماضي، لم يشهد الوضع الفلسطيني الداخلي تفككًا على المستوى السياسي والاجتماعي أكثر من التفكك الذي أحدثه الانقسام السياسي المستمر حتى الآن على مدار قرابة ثلاثة عشر عامًا، وقد شكّل في الواقع التحدي الأبرز للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة؛ حيث فاقم من أزماتها التي مرت بها، وبما سببه من حالة بؤس اقتصادي واجتماعي كبيرين في القطاع، وحالة تفرد في رسم السياسات واختلاف في اتخاذ القرارات في الضفة.
ما ينبغي قوله أن الانقسام السياسي الذي ألحق أكبر الأضرار بالقضية الوطنية لم يكن له أية مبررات موضوعية تدعو لحدوثه، فليس هناك في الواقع أي تناقض رئيسي أو خلل منهجي بين ممارسة المقاومة والعمل السياسي في مرحلة التحرر الوطني ووقائع كثيرة من تجارب الثورات الوطنية تثبت ذلك، لكن الصراع على السلطة السياسية والانغماس في ممارستها العملية وبما تحققه من مصالح تنظيمية ومكاسب فئوية، هو الذي دعا إلى انقلاب 2007 البغيض خروجًا على قاعدة حل الخلافات بالطرق السلمية بين القوى السياسية، في إطار الحوار الوطني الذي يسمح بإعطاء مجال واسع للديمقراطية، يكفل بحل الأزمة التي نشأت بين التعارض السياسي المفتعل بين الخيارين، ولو تحقق ذلك لساهم في تطوير وتعميق الممارسة الديمقراطية في النظام السياسي الفلسطيني، لذلك عدم تفعيل الحوار الوطني لتوحيد السياسة الفلسطينية أدى إلى حدوث الانقسام السياسي الذي شكل في حينه نقطة انطلاق في مشروع سياسي انفصالي أكبر خطورة من الوصول إلى السلطة السياسية؛ ذلك لأنه وفر الإمكانية الموضوعية إلى تجزئة الكيانية الوطنية الفلسطينية، خاصة أن بعض دول المنطقة تشهد واقع الانقسام في مجتمعاتها، حيث جذوره كامنة في المنطقة العربية؛ بسبب التنوع الطائفي والعرقي والتعصب الجهوي والقبلي، وهو ظاهرة تقود تدريجيًا إذا ما توفرت لها عامل البقاء إلى حالة تفتيت مكثف للخارطة السياسية العربية، بما يخدم المشروع الصهيوني والمصالح الإمبريالية.
لقد توفرت لحالة الانقسام السياسي قوة الاستمرارية بسبب التمسك بالمصالح التنظيمية والفئوية، على حساب المصالح الوطنية العليا، وفي وقت أصبح للانقسام السياسي حاضنة إقليمية متمثلة بإمارة قطر ، استدعتها الحاجة الموضوعية للتخفيف من حدة الحصار الإسرائيلي على القطاع، كذلك كان لعامل سيطرة القطبية الثنائية على المشهد الفلسطيني الأثر الكبير في إطالة عمر الانقسام؛ حيث غاب عن المسرح السياسي الداخلي طيلة الاعوام الطويلة الماضية القطب السياسي الثالث الذي كان بإمكانه أن يحد من عملية الصراع على السلطة بين الفصيلين الكبيرين فتح وحماس، وبغياب هذا القطب الثالث توسع نطاق الخلافات بينهما، بحيث عقب كل اتفاق ينفجر على نحو عاصف ومفاجئ خلاف جديد؛ هكذا استمر الانقسام السياسي البغيض الذي طال أمده بالتذرع بأسباب تنظيمية ومصلحية فئوية، كما استمر أيضًا بسبب هبوب رياح الاستقطاب والتطاحن بين المحاور الإقليمية في المنطقة، لتمعن تمزيقًا في جسد الوحدة الوطنية الفلسطبنية، وفي جسد السلطة الفلسطينية.
إن عدم إيجاد السبل الكفيلة بإنهاء هذا الانقسام السياسي البغيض، وعدم تحقيق الوحدة الوطنية للنظام السياسي الفلسطيني، كرد سياسي وطني فاعل في مواجهة مخطط التصفية الأمريكي الصهيوني الرجعي، الذي بدأت أولى حلقاته في مؤتمر البحرين الاقتصادي وبمشاركة عربية وإسرائيلية، وعدم توفير السبل الوطنية والديمقراطية الكفيلة بإنهائه الآن الآن .. وليس غدًا، كما تنشد فيروز في إحدى أغنياتها الشهيرة عن قرع أجراس العودة، فسيحكم التاريخ السياسي الفلسطيني والعربي أيضًا على الحركة الوطنية الفلسطينية التي تقود الشعب الفلسطيني منذ أوائل القرن الماضي، بأنها لم تكن على مستوى التحديات المصيرية في مواجهة المشروع الصهيوني العنصري، وأن ما مارسته من هيمنة سياسية على الشعب من منظور إقليمي قُطري امتدادًا للفكرة الإقليمية التي سادت الحركات الوطنية الاستقلالية العربية، قد أدت في النهاية إلى تخلي الكثير من الأنظمة العربية عن القضية الفلسطينية.